نظرية النزوات في تحليل الشخصية

“سلسلة”

(الجزء 1/2)

بقلم: عسري عبد الإله

مما لا شك فيه أن تحليل أنماط الشخصية واكتشاف النمط السائد فيها، يعطيك فرصة أكبر للغوص في بحر الشخصيات المتلاطم، ويجنبك الكثير من العواصف والصدمات فيمن حولك، انها مصباح وكشاف يدوي يزيح ظلام العتمة والمجهول، فكثيرة هي أسباب الخلافات بين الناس في كل زمان ومكان، أغلبها يرجع لعدم فهم النفس البشرية، وعدم سبر أغوارها مما يؤدى إلى الخلاف، وعدم فهم المقصود.

فالهدف من تحليل الشخصيات هو محاولة فهم سلوكيات الافراد، واستخدام مكبرة التشخيص السريع والدقيق للشخصية لاكتشاف “النمط السائد”، – فحسب المعجم الموسوعي في علم النفس ج 6 – ص 2603 فالنمط هو مجموع السمات التي تميز على وجه الاجمال فرداً او مجموعة – السعي لفهم دوافع السلوك الإنساني/ البشري من خلال اكتشاف مواطن الضعف والقوة، العمل على التنبؤ بالسلوك والوصول الى نتائج، الحرص على ضبط هذه السلوكيات من خلال التأطير والتوجيه وتصحيح السلوكيات غير السوية (النزويات).

 وهنا لا بد من الإشارة “لنظرية العدوانية الاجتماعية“، التي تدخل مدرسة التحليل النفسي الاجتماعي، لصاحبها ليونارد بيرلو في (كتاب العدوانية، نظرية العدوانية الاجتماعية)، والتي يمكن اختزالها بعجالة كالتالي أن الشخصية السوية المتزنة، المنسجمة، لا تحتاج الى تحليل أو تفسير، ويتم على هذا الأساس تحليل الشخصيات غير المتزنة وغير المنسجمة أو العنيفة او التي تعاني من نزوات تؤثر على السلوكيات غير المنضبطة.

غير أن هذا الغوص وهذا الإبحار، وإزالة الغبش، لا يتأتى بالسهولة البادية عليه، فلا بد من التفريق أولاً بين ما يختلج في النفس البشرية من صراعات، ما بين “النزوة” وما بين “الحاجات” الفطرية الطبيعية، ما بين “الرغبات” و“الشهوات”، وهو صراع يقتضي الاطلالة السريعة على أهم المدارس التي أتت على هذا الحقل بالدراسة والتحليل.

والمركب الاستطلاعي الذي سينقلنا في هذه الرحلة يقف بنا في مرفأ وضع منهجية مصغرة للبحث سنبدأها في الجزء الأول من هذه السلسلة على بركة الله كالتالي:

  • تعريف سريع بنظرية التحليل النفسي.
  • أجهزة النظرية.

بسم الله مجراها (المقدمة)

  • تعريف سريع بنظرية التحليل النفسي

نالت “نظرية التحليل النفسي” شهرة واسعة في تاريخ علم النفس باعتبارها أول نظرية نفسية شاملة للشخصية وصاحبها (سيجموند فرويد) الطبيب النمساوي الذي عاش ما بين عامَي 1856 – 1939 وكان أول من أدخل مفهوم اللاشعور في ميدان علم النفس، ووضع تفسيراً جديداً “للغرائز” وتطورها، وفتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين في العلوم الطبيعية والنفسية والاجتماعية.

وهنا اعتقد فرويد أن الإنسان يولد مزوداً بطاقة نفسية سماها “اللبيدو” وأن تلك الطاقة هي التي تكمن وراء السلوك الإنساني وموطن هذه الطاقة هو الذات البدائية أو (الهو).

  • أجهزة النظرية

ترى مدرسة التحليل النفسي أن النفس الإنسانية تقوم على ثلاثة أجهزة تعمل في مستويات ثلاث: اللاشعور وما قبل الشعور والشعور وهذه الأجهزة هي:

  • الهو أو الذات البدائية

هو “منبع” الطاقة البيولوجية النفسية بأسرها ومركز “النزوات الغريزية” وموطن الرغبات المكبوتة، ومخزن النزعات الهمجية الحيوانية ومستودع الدوافع الفطرية وهي كما سماها فرويد صبيانية ولا أخلاقية. وهي كلياً لاشعورية ولو أنها تسمح لما يكمن فيها من دوافع غريزية بدائية أن تطل من آنٍ إلى آخر في الشعور إطلالة سريعة وغالباً ما تكون مخجلة للشخص مفزعة له.

وهي تهدف إلى “الإشباع” والارتواء بأي أسلوب وتعتبر حلقة الاتصال بين الحيوان والإنسان من الناحية النفسية وهي تسعى وراء اللذة وتفادي الألم، – كل نزوة تسعى وراء اللذة وتتجنب الألم – وتتميز بالاندفاع وعدم التقيد بالقيم الاجتماعية والأخلاقية أو المبادئ المنطقية أو حدود الواقع وقيوده وهي تسيطر على سلوك الفرد في مراحل طفولته المبكرة وفي بعض حالات المرض النفسي أو العقلي ولدى المنحرفين.

وتعتبر مدرسة التحليل النفسي أن أهم دوافع الذات البدائية هي دافع الجنس ودافع العدوان. ويعني مفهوم الجنس عند فرويد معاني أكثر شمولاً من المعنى الشائع عن الجنس في أذهان الناس فهو يُدخل في معنى الجنس حُب الذات وحب الأم والأخوة والأصدقاء وكافة أنوع النشاط التي تحقق للفرد اللذة والإشباع. أما دافع العدوان عند فرويد فيعني القوة التي تعمل على تأكيد الذات وهي طاقة فطرية تهدف إلى الإشباع وتحطيم مصادر الألم والحرمان.

  • الذات أو الأنا

العنصر الثاني من عناصر الشخصية عند فرويد وهو يمثل الجانب السيكولوجي لها – هو الذات الوسطى التي تسير حسب مبدأ الحقيقة، أو الدافع، أو المنطق، أو التعقل ويقوم بالتوفيق بين مطالب الهو ومطالب الضمير أو الذات العليا وهي مطالب متناقضة وكذلك مطالب البيئة الواقعية.

والأنا يشبه “الجهاز التنفيذي” لأنه يتحكم في مطالب الهو ومطالب الذات العليا وينظم الاتصال بالعالم الخارجي. وحيث أنه يسير على مبدأ الواقع لا مبدأ اللذة فإنه يؤجل الإشباع المباشر لبعض الدوافع حتى تحين الفرص المناسبة والمقبولة اجتماعياً والأنا مركز للشعور والإدراك والتفكير فهو الشخصية الشعورية.

  • الذات العليا أو الأنا الأعلى

أو ما نسميه بالضمير الأخلاقي الذي يحاسب الأنا على تصرفاته وأفعاله ويقوم بمراقبة النزعات الهمجية والدوافع الفطرية البدائية غير الاجتماعية في الهو أو الذات البدائية ويمنعها من الانطلاق إلى الخارج ويمثل الجانب الاجتماعي للشخصية.

و الذات العليا أغلبها شعورية تشمل الأفكار والمشاعر والاتجاهات والميول السلوكية التي يمتصها الفرد ويتمثلها من والديه والمشرفين على تنشئته وتربيته وتعليمه من النظم الاجتماعية المختلفة التي ينتمي إليها الفرد منذ طفولته وخلال مراحل نموه المختلفة ويستوعبها حتى تصبح وكأنها جزء من نفسه يردعه من الداخل ويمثل العادات والتقاليد والقوانين والقيم الأخلاقية للجماعة في داخل شخصيته. ولهذا فإن لعملية التربية والتنشئة الاجتماعية للفرد في جو يسوده التوافق والإشباع المعتدل للدوافع علاقة مباشرة في تكوين ذات عليا قوية متزنة.

ففي تفاعل الطفل مع أبويه (نظام التنشئة الاجتماعية) تتبلور في نفسه أوامرهما وتعاليمهما عن الخير والشر والصواب والخطأ والحق والباطل والعدل والظلم فيما يطلق عليه “النحت” و“البناء”.

تتبلور جميعها على شكل سلطة داخلية تقوم مقام الوالدين في كل ما يقومان به من توجيه ونقد وثواب وعقاب حتى يجعل من نفسه رقيباً على نفسه يرشده إلى ما يجب وإلى ما لا يجوز عمله ويثيبه أو يؤنبه على كل ما يفعل. هذا هو الذات العليا غير أن الذات العليا وهي ضرب من الضمير اللاشعوري غالباً ما تتعارض مقاييسه القاسية مع مطالب الضمير الشعوري.

فالذات العليا هي التي تجعلنا نشعر بوخيزات الذنب حين نسلك سلوكاً لا يؤنبنا عليه ضميرنا الشعوري كتناول الإفطار في الفراش ونحن لسنا مرضى أو قراءة فصل عن الدافع الجنسي في كتاب مقرر عن علم الأحياء أو علم النفس وقد ينشأ عن الذات العليا نوع من التزمت فتستنكر اللذات الطبيعية العادية عموماً لمجرد أنها لذات سارة.

وينشأ هذا الضمير المتزمت في بيئة شديدة القسوة تقاوم كل صغيرة وكبيرة خلال تنشئة الطفل – على أساس من النواهي والأوامر والموانع القاسية ونتيجة لما يلاقيه الطفل من ألوان العقاب الجسمي والنفسي وما يواجه من أفكار لميوله وحرمان لرغباته.

تلك هي الأجهزة النفسية التي تتكون منها الشخصية في نظر مدرسة التحليل النفسي والتي لا بد أن تعمل جميعها في ظل تنشئة اجتماعية سليمة في تعاون وانسجام مع بعضها لتحقيق أكبر قدر من التوازن والاستقرار النفسي للفرد.

فإذا تصورنا بروز نزوة غريزية في الهو فإنها تتجه إلى أنها لمحاولة إشباعها، ولكن الأنا السليمة تتريث لترى إذا كان الموقف الخارجي لا يسمح بذلك أو تشبعها إذا كانت الظروف الخارجية لا تتعارض مع ذلك.

وفي نفس الوقت يكون الذات العليا أو الرقيب الأعلى ساهراً يتدخل إذا كان في النزوة شيء يتعارض مع القواعد والاتجاهات التي استقرت فيه.

وهكذا تخضع الأنا لثلاث قوى:

  • الأوضاع والحاجات والنزوات والرغبات التي تكمن في الذات البدائية.
  • الأوضاع الاجتماعية الحضارية الخارجية السائدة والقوانين والسلطات وما تفرض من أوامر ونواهي.
  • الذات العليا أو الرقيب الأعلى وما يفرض من صد وتحريم لإشباع تلك الدوافع وتمسك بالقيم الأخلاقية التي امتصها واستوعبها خلال التنشئة الاجتماعية للفرد.

في الجزء الثاني من هذه السلسلة سنتناول:

  • فروقات مفاهيمية ما بين “الغريزة” و”النزوة” في التحليل النفسي.
  • مكونات النزوة.
  • أبرز الانتقادات التي وجهت إلى نظرية التحليل النفسي.